المفاوضات في عهد ملوك آشور
قراءات مشرقية | ملوك آشور | ان لجوء الملوك الاشوريين الى المفاوضات عند فرضهم الحصار العسكري على ملوك الشرق الادنى القديم اشارة واضحة على ان الخيار العسكري يعد خياراً ثانياً اذما نجحت المفاوضات في تحقيق الهدف من الحملة العسكرية وخير الامثلة ما ورد في اسفار العهد القديم (التوراة) التي روت اخبار هجوم الملك سين – أخي- ريبَ (سنحاريب) (704- 681 ق.م) على مدن يهوذا المحصنة وعلاقته مع حزقيا ملك اورشليم (القدس) الذي تمرد فقرر الملك الاشوري معاقبته وعند قناة البركة العليا ( بركة شيلو عند الزاوية الجنوبية الشرقية لاورشليم ) في طريق حقل القصار (يقع في وادي قدرون قرب عين القصار الواقعة خارج اسوار المدينة).
وفي هذة البقعة شهد العالم القديم براعة الاشوريين في فنون سياسة التفاوض من خلال ما تضمنه الحوار الذي دار بين السفير الاشوري وممثلين عن الملك حزقيا وهم ثلاث شخصيات الياقيم بن حلقيا مدير القصر وشبنه كاتبه ويواخ بن اساف حافظ السجل فابلغهم الاول رسالة عن لسان سيده الملك الاشوري لسيدهم بــ : ((قولوا لحزقيا: يقول لك الملك الكبير، ملك اشور: على من اتكلت هذا الاتكال؟ اتظن ان الكلام الفارغ يكسبك حيلة وقدرة على الحرب، فعلى من اتكلت حتى تمردت علي؟ اعلى مصر، هذه القصبة المرضوضة التي تنفذ في كف من تعكز عليها وتثقبها ؟ هكذا هو فرعون ملك مصر لجميع الذين يتكلون عليه وان قلت: نحن اتكلنا على الرب الهنا، فما هو الاله ازلت مذابحه على المرتفعات فقلت لشعب يهوذا واورشليم: امام هذا المذبح في اورشليم تسجدون؟ والان تعال نتراهن، فاقدم لك الفي فرس شرط ان تجد لها فرساناً، انت تعتمد على مصر لتزويدك بالمركبات والفرسان.ثم اتظن اني جئت لاغزو هذا المكان وادمره من دون امر الرب؟ قال لي: اهجم على هذه الارض ودمرها)).
ومن خلال قراءة فاحصة للنص المتقدم يمكن ان نقسم مضمون الرسالة الاشورية الى عدة محاور اولها: محاولة الملك الاشوري سين – أخي- ريبَ (سنحاريب)(704- 681 ق.م) التقليل من مكانة حزقيا اذ خاطبه بدون القاب وكأن النداء موجه الى شخص ادنى منه مكانةً مما يدلل على ان المرسل لم يعترف بشرعية المرسل اليه في حكم المدينة، ثانيها: سعى الملك الاشوري الى بث الخوف والرعب بين صفوف معسكر حزقيا وإضعاف روح المقاومة عندهم من خلال التشكيك في القدرة العسكرية لحلفائهم من المصريين الذين وصفهم بالضعف بهدف اثارة الرعب بين اتباعة دلالة على براعة الخطاب الاشوري باساليب الحرب النفسية (الباردة)، ثالثها: كما انه استفز حزقيا بالتقليل من شان فرسانه وعدم قدرتهم على مواجه الفرسان الاشوريين كما اكد الملك الاشوري بانه ينفذ رغبات الاله في دخول مدينة اورشليم وكان يقصد من وراء ذلك أحباط معنويات المفاوضين، ورابعها: اراد الملك الاشوري ان يضفي على حربه صيغةً دينيةً بدعوى ان الاله من امره بهذه الحرب وتدمير البلاد.
وعندما التمس ممثلي حزقيا قوة الحوار وتاثيره المباشر على السكان واثارة الخوف والرعب بين صفوفهم تقدموا بالتماس الى السفير الاشوري وطلبوا منه الاتي: (( كلمنا باللغة الارامية فنحن نفهمها، ولاتكلمنا باليهودية على مسامع الذين على السور)) سعى ممثلي حزقيا الى تقليل الوطاة على شعبهم اذ اردوا ان تتحول لغة المخاطبة بينهما من لغة عامة يفهمها كل الحضور (اليهودية) الى لغة خاصة ودبلوماسية يفهمها المفاوضون حصراً (الارامية) حتى لايفهم السكان بمجريات الاحداث فهذا يؤكد مدى معرفة الاشوريين باللغة الارامية واجادتهم لها الا ان الرد بالرفض كانت اجابة الوفد الاشوري قائلين:-(( اتحسبون ان سيدي ملك اشور ارسلني لاقول هذا الكلام لسيدكم او لكم كلا، بل لأقوله ايضاً للرجال الذين على السور وقريباً معكم ياكلون وسخهم ويشربون بولهم)).
ويبدو أن المفاوضات قد وصلت إلى طريق مسدود مما دعا السفير الاشوري إلى توجيه خطاب مباشر للشعب اليهودي وبلغتهم العامة قائلاً: ((اسمعوا كلام الملك الكبير، ملك اشور: لاتدعوا حزقيا يغرر بكم ، لانه لايقدر ان ينقذكم من يدي، ولاتدعوه يقنعكم بقولة: توكلوا على الرب، فهو ينقذنا ولايسلم هذه المدينة الى يد ملك اشور)) ويستمر النص بسرد الوعود التي قطعها الملك الاشوري للشعب اليهودي بان يحافظ على ارواحهم وممتلكاتهم وخيرات اراضيهم ويتوعدهم في حال سماع امر حزقيا بان تدمر مدينتهم وممتلكاتهم وهنا يذكرهم بمصير المدن التي تمردت عليه وسحقها ولم ينفعها دعم الاله لها ويستشهد بذكر مدينة حماة وارفاد والسامرة وغيرها من مدن الشرق الادنى القديم اذ افتخر متسائلاً اياهم قائلاً: (( واي الهه من جميع الالهة انقذ ارضه من يدي حتى ينقذ الرب اورشليم )) واختتمت المحاورة بان انسحب ممثلي حزقيا ليخبروه بما جرى واعلنوا الحداد بتمزيق ملابسهم .
وهنا حاول الملك حزقيا انقاذ مايمكن انقاذه فسعى الى رفع معنويات شعبه اولاً من خلال استشارة مساعديه لوضع خطة تنقذ مدينتهم من الهجوم الاشوري المرتقب فباشروا بردم عيون المياه الموجودة خارج المدينة كي يحرم الجيش المهاجم من الاستفادة منها محاولين عرقلة تقدمهم كما سعى حزقيا الى توفير المياه واصاله لسكان المدينة اذ قام بحفر قناة باسم ( نفق سلوام ) وسعى الى تقوية دفاعاته فعمل على ترميم سور المدينة القديم المتهدم وابراجها اولاً، وبنى سوراً جديداً خارج السور القديم ثانياً، كما سعى الى اعادة تنظيم قواته ورفع معنوياتهم بتعيين قادة حرب متمرسين وامر بجمع شعبه في ساحة المدينة والقى عليهم الخطب الحماسية اذ قال: (( لا تفزعوا ولاترتعبوا من ملك اشور ولا من جيشه، لان من معنا اقوى من الذي معه. معه قوة بشرية فقط، واما نحن فمعنا الرب الهنا يعيننا ويحارب حروبنا)).
ومن ثم ارسل حزقيا رسله الى النبي اشعيا ابن اموص يشكون اليه ضعفهم بان شبهوا حالهم بحال امرأة حان وقت ولادتها ولا قوة لها على الولادة متشفعين به لينقذهم من مأزقهم برفع صلاته الى الاله فكان جوابه الى حزقيا بان لا يخاف من الملك الاشوري سين- أخي – ريبَ (سنحاريب) (704- 681 ق.م) الذي سيموت عندما يرجع الى بلاده، فارسل النبي اشعيا بن اموص الى حزقيا يقول: (( هذا ما قاله الرب على ملك اشور : لن يدخل هذه المدينة ، ولن يرميها بسهم ، ولن يتقدم نحوها بترس ، ولن ينصب عليها برجاً ، لكن في الطريق التي جاء منها يعود ، والى هذه المدينة لن يدخل . فاحمي هذه المدينة من اجلي ومن اجل داود عبدي)).
الا ان هذه الاجراءات لم تنقذ حزقيا كما اخبرنا الملك الاشوري بنفسه عن الاحداث العسكرية التي جرت على ارض مدينة اورشليم (القدس) بالاتي: (( اما حزقيا اليهودي الذي لم يركع لنيري فقد حاصرت ست وأربعين مدينة من مدنه القوية ومعها المدن الصغيرة المجاورة والتي لاتحصى واسندت المشاة مستخدمين كتل اللهيب والانفاق وحفر الثغرات حتى استوليت على هذه المدن واسرت150-200 من السكان, نساءً ورجالاً كباراً وصغاراً واغتنمت عدداً لا يحصى من الخيول والبغال والحمير والماشية, وعاقبت كل من حاول الهرب من المدينة…، وخذلت حزقيا بفخامتي المرعبة وهجره العرب والمرتزقة من القوات التي جلبها لتعزيز دفاعاته في القدس مدينتة الملكية )).
ولقد سار حفيده آشور- بانِ -آبلِ ) اشور بانيبال) (668- 626 ق.م) على خطاه بان جعل الخيار العسكري اخر الحلول مستنداً الى اسلوب المفاوضات مع اخيه الاكبر شمش- شوم- اوكن ملك بابل وحلفائه فحاورهم بـ:-((…الذي يتكلم ضد سيدنا اشور بان ابل ملك بلاد اشور…سوف يكبل بالاغلال ونرسله الى سيدنا اشور-بان-ابل ملك بلاد اشور.. … والجرائم التي ارتكبتوموها بسبب شمش-شوم-اوكن ضد سيدنا اشور-بان-ابل ،ملك اشور قد غفرها سيدنا اشور- بان -ابل ملك اشور )) وفي نص اخر قال: (( اما تلك الكلمات الجوفاء التي اسمعكم اياها ذلك الاخ الخائن فقد بلغت كلها مسامعي وهي ليست الا ريحاً عابره فلا تصدقوه ولاتسمعوا حتى ولا لحظة واحدة لاكاذيبه ولا تلطخو اسمكم المجيد الناصع امامي وامام كل العالم بالعار ولا تجعلوا من انفسكم اثمين بحق الالهه المقدسة)).
ومن تحليل ماورد في الخطاب السياسي يتبين بان الملك الاشوري قد توجة الى البابليين بعد ان وصل الى طريق مسدود مع اخيه الذي وصفه بـ : ((…اخي الخائن نقض اليمين الذي قطعه لي وراح يحرض علي اهالي اكد الكلديين والاراميين…اومانيكاش ملك عيلام…كل هولاء اعلنوا الحرب ضدي…)) فاراد بخطابه هذا ان يبني جداراً حاجزاً مابين القيادة المثمثلة (بالاخ وحلفائه) الشعب (سكان بابل) واراد ان يقلل من مركز اخيه القيادي بوصف الوعود التي اعلن عنها كأنها قبض ريح وطلب من مؤيديه ان يعودوا الى رشدهم فمخططاتهم مكشوفة وهنا اشارة الى الاستخبارات الاشورية المتواجدة في ممالك العالم القديم منها بلاد بابل وسرعة وصول اخبار الاعداء الى مسامع الملك، وفي نهاية المطاف لجا المفاوض الاشوري الى الخيار العسكري مضطراً لسحق المتحالفين قائلاً: ((…سحقتهم بقدمي حتى حدودهم البعيدة, سلطة اشور التي نبذوها فرضتها عليهم…)).
مما تقدم يتبين لنا بان السياسة الاشورية كانت تلجا الى الجانب العسكري في حالة فشل المساعي السلمية واستنفاذها فاستخدموا اسلوب التحاور الى جانب القوة والسلاح في اخضاع الدول والممالك المجاورة لهم.
المصادر المعتمدة:
اولاً المصادر العربية:
(1) العهد القديم ،سفر الملوك الثاني .
(2) العهد القديم سفر الأيام الثاني.
(3) حبيب، طالب منعم، سنحاريب سيرته ومنجزاته 704- 681 ق.م، رسالة ماجستير غير منشورة مقدمة الى كلية الاداب جامعة بغداد 1986.
(4) الحديدي، احمد زيدان، حملة الملك الاشوري سين- اخي- ريبَ على مدينة اورشليم بين النص المسماري والتورارتي دراسة مقارنة، بحث منشور في مجلة حوليات التاريخ والجغرافيا الصادرة عن مخبر التاريخ والحضارة والجغرافيا التطبيقية بالمدرسة العليا للاساتذة بوزريعة- الجزائر العدد التاسع ديسنمبر 2015.
(5) الحديدي، احمد زيدان، السياسة الاشورية تجاه ملوك الشرق الادنى القديم 911- 612 ق.م، بحث منشور في مجلة دراسات في التاريخ والاثار الصادرة عن جامعة بغداد كلية الاداب العدد 62 كانون الاول لسنة 2017.
(6) الدوري، رياض عبد الرحمن امين ، اشور بانيبال سيرته ومنجزاته، (بغداد،2001).
(7) الأحمد، سامي سعيد، تاريخ فلسطين القديم, (بغداد، 1979).
(8) حبيب، طالب منعم، سنحاريب سيرته ومنجزاته 704- 681 ق.م، رسالة ماجستير غير منشورة مقدمة الى كلية الاداب جامعة بغداد 1986.
ثانياً المصادر الاجنبية:
(1) Luckenbill , D. D .The Annals of Sennacherib, (Chicago,1924 ).
(2)Luckenbill, D, D, Ancint Records of Assyra and Babylonia,( New York,1926- 1927), Vol.I&II.
(3) Olmsted, A.T, History of Assyria, (London,1952).