أسطورة الفدائيين الأتراك والأكراد في المخيمات الفلسطينية
-خالد يلماظ
في إحدى صفحات التاريخ التي لا تُنسى، أعلن شبان أتراك بكل جرأة في مساء 6 حزيران/ يونيو 1967 ــ اليوم الذي بدأت فيه حرب الأيام الستة بين العرب والكيان الإسرائيلي ــ عن مشاعرهم واستنكارهم من خلال إصدار بيان ثوري، وقرارهم الانضمام إلى صفوف المقاتلين لنصرة القضية الفلسطينية. أعلن الشبان دعمهم للدول العربة، وشددوا في بيانهم على أن هذه الحرب هي جزء من النضال من أجل الاستقلال، وأكدوا بإيمان كبير أن انتهاء الحرب بسرعة يعتمد على استعادة الحقوق العادلة. وفي الوقت نفسه أشاروا إلى أن الكيان الاسرائيلي يخدم مصالح الإمبرياليين في المنطقة.
كانت هناك نقطة خاصة تم التركيز عليها في البيان: “لا يجب استخدام المنشآت والقواعد في تركيا ضد دول العرب”. في تلك الفترة كان هناك طلاب فلسطينيون وسوريون وعراقيون وأردنيون يدرسون في الجامعات التركية، قرروا العودة إلى بلادهم لتقديم المساعدة وحملوا معهم معدات طبية وأدوية متنوعة.
كان هدف مجموعة الشبان الأتراك الذين ذهبوا إلى فلسطين هو دعم القضية الفلسطينية، وبدء انتفاضة مسلحة ضد الإدارة الموالية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) والموالية لأمريكا، وقد تلقوا تدريبًا مسلحًا لأجل ذلك. الأحداث في الوطن العربي كانت من أهم أولويات الشباب الثوار في تركيا.
في عام 1968 كان هناك أيضا ثوّار أتراك قرروا الانطلاق إلى فلسطين لدعمها. من بينهم “عبد القادر ياشارغون” البالغ من العمر 18 عامًا و”مصطفى تشيليك” البالغ من العمر 19 عامًا. كان هذان الشابان الجريئان عضوين في حزب العمال التركي وسافرا إلى فلسطين عبر طرق غير شرعية. شاركا في الاشتباكات هناك وارتقى مصطفى تشيليك شهيدًا. إنه أول شهيد تركي قدمه الثوّار لفلسطين.
ليس إلى الاجازة بل إلى فلسطين
في مجلة “اليسار التركي” المؤرخة، كتب “دينيز غزميش” العبارات التالية في العدد المؤرخ 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 1968:
“عندما تكون شعوب العالم النامية في صراع ضد الاستعمار يجب أن لا يبقى الشباب خارج هذا الصراع. نحن ملزمون دائمًا بالوقوف إلى جانب المضطهدين. إذا لم يكن نضالنا متوازيًا مع مكافحة الاستعمار، سنبقى تائهين في عالم فوضوي. الشباب الثائر هو الذي يناضل ضد الاستعمار الأمريكي والكيان الصهيوني. مهمتهم هي محاربة الاستعمار الأمريكي بكل قوتهم بغض النظر عن قلة أعدادهم وقوة العدو. إنهم الذين يصدرون القرارات بحكمة وينفذونها بشجاعة. إنهم كرسوا حياتهم لهذا النضال المقدس، حياة للشعوب العالمية النضالية من أجل الاستقلال!”.
لم يقتصر دعم الثوار الأتراك لفلسطين على المساعدات العسكرية. لقد دافعوا بكل إخلاص عن القضية الفلسطينية فكريًا وسياسيًا. وقامت الجماعات اليسارية بتنظيم حملات عديدة للمساهمة في نضال الشعب الفلسطيني من أجل الحرية وبذلوا جهودًا لزيادة الوعي العام بهذه القضية الهامة. وفي الوقت نفسه انطلقت في تركيا في ذلك الوقت حملات جمع المساعدات لفلسطين وحظيت هذه الحملات بدعم كبير.
مغامرة ثورية للشباب الأتراك والأكراد في فلسطين
“دينيز جيزميش” نفذ بنفسه وعلى أرض الواقع الوعد الذي قطعه في كتابه، وانضم إلى أولئك الذين يقاتلون من أجل محاربة الاستعمار وانطلقوا إلى جانب الثوار. في نهاية حزيران/ يونيو 1969 أخبر عائلته أنه ذاهب إلى الاجازة في منطقة “كوشاداسي” بمدينة أزمير على شاطئ البحر. ولكنه توجه إلى فلسطين برفقة رفاقه: جيهان ألبتكين، عمر إريم سويركان، فاضل حسن، قيدول توران ويوسف كوبيلي. كانت حقائبهم ملئية بالأسلحة والعديد من الكتب. توقفوا أولاً في سوريا حيث التقوا بأبي سليمان عضو الجبهة الديمقراطية الفلسطينية الذي كان بمثابة الدليل لهم خلال رحلتهم. يوسف كوبيلي وصف هذه الرحلة في كتابه “البحث عن الدينيز وفلسطين”:
“لقد خططنا لقيادة عربة تجرها الأحصنة والنزول في قرية تقع على الحدود وهكذا فعلنا. توقفنا عند محطة القطار قبالة الحدود ودفعنا 10 ليرات للشخص الواحد لعبورها. بعد العبور بحوالي 600-700 متر وصلنا إلى منزل يقع على قمة تلة. هناك رجلان أو ثلاثة كانوا يرتدون العباءة. وبعد فترة جاءت سيارة لاند روفر وركبنا فيها. وبعد كيلومتر أو نحو ذلك مررنا بقرية صغيرة. وصلنا إلى حافة النهر حيث تم ربط طواف. لقد تركنا السيارة ثم ركبنا الطواف وعبرنا النهر. وبعد عبور النهر قطعنا مائة متر أخرى من الطريق ووصلنا إلى المفترق المؤدي إلى دمشق عبر حلب وحماة وحمص. بدأنا في إرسال الإشارات إلى السيارات. ثم توقفت سيارة أجرة قديمة. وضع السائق الأمتعة الثقيلة التي لا يعرف ما بداخلها في صندوقها”.
وبعد فترة وجيزة تم قطع الطريق من قبل الجنود السوريين في المنطقة وفتحت الحقائب وشوهدت الأسلحة. تم احتجازهم في تلك اللحظة، ولكن فجأة بدأ دنيز جيزميش يردد الشعارات ويغني النشيد الثوري.. احتجزوا أولاً في حلب لمدة أربعة أيام، ثم في دمشق لمدة اثني عشر يومًا… قرروا الاقرار بحقيقة سبب وجودهم هناك.
رجال الجبهة الديمقراطية الذين جاء دينيز وزملاؤه للانضمام إلى صفوفها ونصرة القضية الفلسطينية من تركيا، أخرجوهم من السجن. أولاً تم تنظيم هوياتهم في دمشق، ثم استعادوا الكتب والأسلحة المصادرة قبل أن ينتقلوا الى المخيم الفلسطيني في عمان. هناك، أصرّ دنيز جيزميش على مقابلة زعيم التنظيم نايف حواتمة، هذه الرغبة تحققت في اليوم الثالث.
بدأ دنيز المقاتل بالحديث عن تشي غيفارا. هذا الشاب الشغوف والمتحمس وهو كان في عمر أولاد حواتمة، تعامل معه حواتمة بتفهم كبير وابتسامة. استمع إليه بكل إخلاص. كان هناك شباب من العديد من البلدان في المخيم الفلسطيني. من ناحية كانوا يحضرون المؤتمرات ومن ناحية أخرى يتعلمون كيفية استخدام الأسلحة. بمعنى آخر كانوا يتلقون تدريبًا نظريًا وعمليًا على ثورة أحلامهم. وكان دينيز ينام بالملابس والحذاء التي كان يرتديها، ليتعلم كيف يعيش المقاتلون. ومرّت الأيام على هذا النحو.
خضع الشبان الأتراك لتدريب متعب. وكانوا دائمًا يخوضون في النقاشات حول الأحداث، والدردشة مع الشباب الثوار من مختلف أنحاء العالم، وخاصة الفلسطينيين. وبعد حوالي شهر من التدريب عادوا إلى تركيا بنفس الطريقة التي جاؤوا بها في شهر أغسطس. لقد كانوا جاهزين ومهيئين للانخراط في الحرب ضد الكيان الإسرائيلي، وعندما جاءت الأخبار هرولوا إلى الجبهة للقتال. قبل عام ونصف من حرب تشرين الاول/ أكتوبر 1973 أعدم دينيز بعد اغتيال السفير والدبلوماسي الصهيوني بتركيا، لذلك لم يتمكن من القتال ضد الكيان الصهيوني، ولكنه نفّذ مع رفاقه عملية أسطورية في اسطنبول عندما خطفوا وقتلوا القنصل الاسرائيلي افرايم ألروم.
هذه العملية كانت بمثابة النهاية لجبهة التحرير الشعبية في تركيا، التي كان دينيز وزملاؤه ينتمون إليها، وغيرها من المنظمات اليسارية المسلحة، فقامت الحكومة التركية بالتعاون مع المخابرات الإسرائيلية، إما بالقبض على الشخصيات القيادية في التنظيمات اليسارية أو القضاء عليهم واحدًا تلو الآخر.
تعذيب الثوار الذين يذهبون إلى فلسطين
رفيقا دنيز، حسين إنان و يوسف أصلان، اللذان أعدما معه كانا أيضًا من ضمن الثوار الذين انضموا إلى المعسكرات دعمًا لفلسطين. وكان لهما مواقف مشرفة قبيل الإعدام، فقد كتب أصلان في مقال له بعنوان “لماذا ذهبت إلى فلسطين وانضممت إلى فتح؟”.. ما يلي:
“اليوم، نحن نقاتل ضد “إسرائيل” التي هي معقل الإمبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط. إن الشعوب غير العربية تخوض حرباً ضد الإمبريالية. هذه الحرب هي جزء من الحروب التي تقوم بها الشعوب المقموعة والمضطهدة ضد الإمبريالية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية والعالم كله. إنه جزء من النضال الثوري للشعوب المضطهدة تحت القمع. إن الحرب ضد الإمبريالية هي الحرب المشتركة لجميع شعوب العالم. كل الرصاص الذي أُطلق ضد الإمبريالية في فيتنام والوطن العربي وأمريكا اللاتينية هو رصاص تم إطلاقه من أجل تحرير الشعب التركي في الوقت نفسه”.
أمّا حسين إنان وأصدقاؤه الذين قبض عليهم رجال الأمن أثناء عودتهم من فلسطين إلى الوطن فقد تم وضعهم في سجن ديار بكر. رغم ذلك، تصدّوا من سجنهم للدعاية المضللة للحكومة التركية في وسائل الاعلام، وصرّحوا بما يلي:
“نحن ثوار معتقلون نتعرض منذ أيام للتضليل الحكومي مثل “تم القبض على الارهابيين وهم يحاولون تخريب كلية الطب في ديار بكر”، “تم القبض على المخربين الذين تم تدريبهم في تنظيم فتح للتخريب”، هذه العناوين هدفها تضليل الرأي العام من قبل المسؤولين الحكوميين والمتعاونين والشرطة. اتهاماتهم باطلة ومخططاتهم لا أساس لها من الصحة. وليس هناك أي شك في أن هؤلاء سوف يخسرون في النهاية مثل غيرهم. لقد وظفت الحكومة التركية عملاءهم في فلسطين لملاحقتنا حيث ذهبنا من أجل النضال مع القضايا العادلة للشعوب العربية، وعند عودتنا إلى الوطن أمسكوا بنا بطرق معدّة ببراعة لتوريطنا في مخططاتهم”.
الرحمة للشهداء الأتراك على طريق فلسطين.