موقع اممي ثوري ثقافي مناهض للامبريالية ومناصر لقضايا الشعوب حول العالم.

الليرة اللبنانيّة تترنّح والأزمة الاقتصاديّة تتعمق

124
image_pdf

لا يمكن للشعب اللبناني نسيان “كابوس” سعر صرف الليرة في ثمانينيات القرن الماضي، فمن لم يعش تلك المرحلة بتفاصيلها، عاش أخبارها وتداعياتها التي وصلت إلى حد التسبب بجلطات قلبية ودماغية لعدد من أصحاب الأموال، إذ ارتفع سعر الدولار من 3.43 ليرة لبنانية لكل دولار عام 1980 إلى 16.41 عام 1985، ولكن في عام 1992 وصل سعر الدولار الواحد إلى 2825 ليرة لبنانية.

وفي اليوم الحاضر، هبطت قيمة العملة حتى وصل سعر الدولار مقابلها – حتى إعداد هذا التقرير – إلى أكثر من خمسة آلاف ليرة في السوق غير الرسميّة، وبذلك تكون قد فقدت 70 في المئة من قيمتها منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عندما غرق لبنان في أزمة اقتصادية يُنظر إليها كأكبر تهديد لاستقرار البلاد منذ الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990.

وبحسب اقتصاديين، فإن خطة الحكومة التي قضت بضخ الدولار في السوق من قبل المصرف المركزي للجم ارتفاع سعره أمام الليرة لن تصمد طويلًا، ويشيرون إلى أن السوق الموازية تنشط بشكل غير مسبوق، وسط تساؤلات عن اختفاء الدولارات في الأسواق وعلاقتها بتهريبها إلى الخارج، أو تجميعها من قبل كبار التجار وبعض الأحزاب.

ويدعم مصرف لبنان استيراد القمح والأدوية والمحروقات بالدولار الأميركي، ويخشى من استنفاد ما تبقى من العملات الصعبة في المصرف بفعل سياسات توصف بغير المدروسة، يضاف إليها إفلاس الدولة واستدانتها الأموال من المصرف لتغطية نفقاتها المكدسة لتسيير أمورها.

ويوضح محللون أن الخطط التي تعتمدها الحكومة تعكس الارتباك الكبير في إدارة الأزمة، فـ”قانون قيصر” وشح الدولار وارتفاع الأسعار وعمليات التهريب، مؤشرات ترسم صورة شديدة القتامة للمرحلة المقبلة.

أسباب تدهور سعر الليرة

ووفق تقرير لمجموعة الأزمات الدولية، فالليرة اللبنانية إلى مزيد من التدهور مقابل سعر صرف الدولار المتفلّت من كل الضوابط، وفي غضون ثلاثة أشهر، أي في أيلول المقبل، قد يصل عدد العاطلين عن العمل إلى مليون لبناني.

ويرى اللبنانيّون بأمّ العين تهاوي القدرة الشرائيّة لرواتبهم وتعويضات نهاية خدمتهم، في ظل ارتفاع أسعار السلع المستوردة، وغياب أي خطّة لتفعيل الإنتاج المحلّي، لكن ما أسباب تفاقم تدهور الليرة اللبنانية؟

عوامل عدة ضاغطة على سعر الصرف أبرزها: تراجع الموجودات الخارجيّة للمصارف، حيث تعتمد المصارف بشكل رئيس على موجوداتها الخارجيّة لشراء الدولار الورقي من الخارج، ولسداد التزاماتها لصالح الجهات الأجنبيّة، وتنفيذ التحويلات إلى الخارج، وعمليَّا ولغاية شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، لم يبقَ لدى المصارف اللبنانية سوى 16.6 مليار دولار من هذه الموجودات، مقارنة بنحو 25.2 مليار دولار في بداية العام الماضي، لكنّ المصارف ليست حرّة التصرّف بهذه المليارات المتبقية، إذ يترتّب عليها نحو 8.45 مليار دولار من الالتزامات لصالح القطاع المالي غير المقيم، أي المصارف المراسلة وغيرها من المؤسسات الماليّة الخارجيّة، وهي التزامات يقتضي سدادها بالدولار من الموجودات الخارجيّة، وبذلك، يتدنّى صافي الموجودات الخارجيّة بعد حسم قيمة هذه الالتزامات إلى نحو 8.15 مليار دولار.

ويرى المختصون أن السبب الثاني والذي كان أحد العوامل التي أوصلت الليرة اللبنانية إلى هذا المنحدر، هو شح مصادر الدولار الأخرى، فمع تراجع احتياطات مصرف لبنان، واستنزاف موجودات المصارف، لم يعد لبنان يملك الكثير من مصادر العملة ليراهن عليها، وآخر مصادر العملة الصعبة كانت التحويلات التي استمر جزء من المغتربين بتحويلها إلى أسرهم عبر شركات تحويل الأموال، مع العلم أن المغتربين توقّفوا منذ أكتوبر/تشرين الأوّل الماضي عن تحويل الدولارات للادخار في المصارف، بعد حصول الانهيار الأخير في القطاع المصرفي، لكنّ هذا المصدر الأخير من العملة الصعبة بات يعاني أيضًا من أزمة تهدده، مع توسّع أزمة كورونا عالميًا وضربها لمصادر دخل اللبنانيين في بلدان الاغتراب، واليوم، بات عشرات الآلاف من المغتربين اللبنانيين، وبالأخص في الدول الأفريقيّة، ينتظرون الفرصة للعودة إلى البلاد، بعد أن ضربت جائحة كورونا المجتمعات التي يقيمون فيها.

على حافة “المجاعة”

إذًا، أزمة شح الدولار ستكون أكبر من مجرّد مساس بحقوق المودعين في المصارف، والبلاد باتت على وشك أزمة اجتماعيّة كبيرة، فمع شح الدولار في الأسواق، وتوقّف عجلة الإنتاج بشكل كامل، واعتماد البلاد على المتبقي من دولارات في مصرف لبنان وفي منازل اللبنانيين لاستيراد الغذاء، لا شيء سيوقف تحليق سعر الصرف عاليًا، ومع كل ارتفاع في سعر الصرف، ستكون القدرة الشرائية للبنانيين على موعد مع مزيد من التدنّي، إلى أن يطال هذا التدنّي قدرتهم على توفير أبسط مقوّمات الصمود، وكل السيناريوهات تؤدّي إلى مشهد واحد: لبنان سيكون على مشارف انهيار اجتماعي كبير، يمكن أن يصح فيه توصيف “المجاعة”.

وكان من المفترض أن تكون السلطة بصدد قرع ناقوس الخطر، وإطلاق أكبر مشروع للنهوض بمقوّمات الصمود، وبالأخص من ناحية تفعيل الإنتاج الغذائي إلى أقصى حدود لحماية الأمن الاجتماعي، وتخفيف ارتباط أزمة اللبنانيين المعيشيّة بشح الدولار وارتفاع سعر الصرف، لكنّ مجلس الوزراء، كما بات واضحًا، ينشغل اليوم بأزمات أخرى، فبدل التفكير في خطّة للبدء بمعالجة أزمة الودائع عبر إعادة هيكلة القطاع المصرفي، قادت مزايدات بعض الزعماء في موضوع “حماية المودعين” وتركيز مصرف لبنان على مصالح المصارف إلى تعاميم ستغرق السوق بالليرة اللبنانيّة، وسيكون علينا ترقّب المزيد من الارتفاع في سعر الصرف.

تركيا.. قياس مع الفارق

وكعادتهم أنصار تركيا في لبنان يستغلون الوضع للمقارنة بين البلدين، كما في كل مرة، حيث غزت منشورات عدّة صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، تقول إنه “عند هبوط سعر الليرة التركية، باع الشعب التركي ما لديه من عملات أجنبية ومجوهرات واشتروا عملتهم، أما الشعب اللبناني يبيع كل ما لديه ليشتري الدولار”.

ولكن الردود القادمة من تركيا كانت صادمة، إذ يقول أحد المواطنين من داخل تركيا: “الفساد في تركيا كما في لبنان، وإذا قام بعض الأشخاص ببيع دولاراتهم في تركيا وتم تصويرهم عبر الإعلام، لا يعني ذلك أن الشعب كله أصبح حريصًا على دولته”، ثم تساءل قائلًا: “لماذا بعض اللبنانيين دعا إلى شراء الليرة التركية حين وقعت الأزمة، واليوم تجده في الطابور أمام الصراف لشراء الدولار، وهذا ما يساهم بانهيار عملته؟”.

في حين قال مواطن تركي آخر: “القصة التركية مضخمة… في وقت الأزمة منعت الدولة عنا الدولار بالقوة، والشعب كله حوّل حساباته للدولار، لا تصدق كل ما يصلك، أخبار الوضع هنا كانت صعبة”.

ولكن يبقى القلق يراود بعض اللبنانيين هنا، بعد الأخبار المتداولة عن فرض العملة التركية في المناطق التي تحتلها تركيا في سوريا، بعد تدهور قيمة نظيرتها السورية إلى مستويات قياسية أمام الدولار، إذ إنهم لا يستبعدون أن تحذو طرابلس شمال البلاد حذوها.

فوضى.. واضطرابات

ووفق تقرير مجموعة الأزمات الدولية الأخير، فإنه “في حال تحوّلت الاحتجاجات الاجتماعية إلى اضطرابات جياع، فستعجز قوات الأمن – التي تتلقى رواتبها بعملة تتضاءل قيمتها على نحوٍ متزايد- عن السيطرة على الوضع، ومن المستبعد أن تتمكن من ذلك، قد يكون التدهور المتسارع للخدمات العامة، مثل الصحة والتعليم والكهرباء، على بُعد أسابيع فقط”.

وفي هذا الإطار، يحذر مدير مشروع لبنان وسورية والعراق في مجموعة الأزمات الدولية “هايكو ويمين” من معارضة الولايات المتحدة الأميركية مساعدة لبنان، بذريعة أن “حزب الله” أحد مكوّنات الحكومة، فسيكون ذلك خطأ كبيرًا، فمن شأن فشل المفاوضات الجارية مع صندوق النقد الدولي ـ وهو ما قد يثني أيضًا الكثير من المتبرعين الدوليين عن تقديم المساعدة بأنفسهم ـ أن يكون كارثيًا.

ارتفاع صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية، ليس الارتفاع الأوّل، لكنّه الارتفاع الذي نقل رواتب صغار الموظفين والعسكريين من أن تكون قادرة على تأمين الطعام والشراب حصرًا، إلى أن تمسي غير كافية حتى لدفع أجرة الطريق.

ارتفاعٌ، قطّع أوصال لبنان، بموجات من المحتجّين والغاضبين، قطعت مداخل بيروت والطرق الرئيسة في المناطق، وهذه المرّة، كما في بدايات ثورة 17 تشرين، لم يترك الغضب حزبًا ولا منطقًة إلا وأنزل أهلها إلى الشوارع.

المصدر : وكالات

image_pdf
قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.